محاولة انقلاب بوليفيا- صراع داخلي أم بصمة خارجية؟

الأحداث المضطربة التي شهدها محيط القصر الرئاسي في لاباز البوليفية، يوم أمس، أثارت سيلاً من التساؤلات العميقة. تلك الواقعة، التي صُنّفت في البداية على أنها انقلاب مكتمل الأركان، ثم جرى تعديلها لاحقًا إلى "محاولة انقلاب"، حفلت بتفاصيل بالغة التعقيد والإثارة للريبة، مما جعل جميع التحليلات والقراءات المتداولة في غاية المعقولية والوجاهة.
تضاربت الاتهامات حول الجهة المسؤولة عن هذه المحاولة المزعومة لزعزعة استقرار الحكم في بوليفيا. انحصرت دائرة الاشتباه بين الأجنحة المتنافسة داخل أروقة الحزب الحاكم، حزب "ماس"، وبين الجهات الداعمة لتلك الأجنحة داخل المؤسسة العسكرية من جانب؛ وبين القوى الخارجية المتمثلة في الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، وذلك من خلال تحريك عملائهم وحلفائهم داخل المؤسسة العسكرية. ولا يعتبر هذا الطرح ضربًا من المبالغة أو التهويل، وذلك بالنظر إلى اعتبارات جوهرية سنقوم بتوضيحها وشرحها تباعًا.
تحركات مُريبة
عندما تابعنا باهتمام بالغ أخبار الانقلاب عبر شاشات التلفزيون، ظهر يوم أمس الأربعاء، انطلقت التغطية الإعلامية بعرض صور مروعة للدبابات والجنود المدججين بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة وهم ينتشرون في ساحة موريّو بقلب مدينة لاباز. تقدمت عربة مدرعة ضخمة، تتبعها فرقة كاملة من الجنود، نحو البوابة الرئيسية للقصر الرئاسي المطل على الساحة. وقبل ذلك بلحظات معدودة، نشر الرئيس الحالي لويس آرسي، والرئيس السابق والزعيم اليساري إيفو موراليس، تغريدتين متتاليتين على حسابهما الرسمي، عبّر فيها الأول عن وجود تحركات مشبوهة لوحدة عسكرية تابعة للقوات المسلحة في محيط القصر الرئاسي، ودعا إلى ضرورة احترام مبادئ الديمقراطية. بينما حذّر موراليس بصراحة ووضوح من وقوع انقلاب عسكري بقيادة وحدة من الجيش، مناشدًا الشعب البوليفي حماية المسار الديمقراطي للبلاد والحفاظ عليه.
عقب ذلك، شاهدنا جميعًا التقدم المحرز للمدرّعة في تدمير بوابة القصر الرئاسي، وشروع العناصر المسلحة المتمركزة في الساحة في إلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع بشكل عشوائي، مما أدى إلى إصابة المنطقة المحيطة بالشلل التام. ولكن المثير للدهشة والاستغراب هو وقوع هذه الأحداث في وضح النهار، وبحركة بطيئة ومتأنية، تفتقر إلى الوحشية المعهودة في الأداء العسكري الذي اعتدنا رؤيته في الانقلابات العسكرية التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، لم تشهد تلك الواقعة أي تحركات موازية أو مشابهة في محيط مبنى البرلمان، أو القنوات التلفزيونية والإذاعية الحكومية على سبيل المثال. ومما زاد من دهشة واستغراب المتابعين والمراقبين للأحداث، هو خروج الرئيس آرسي إلى ساحة المواجهة وهو أعزل تمامًا، لمواجهة قائد ذلك التمرد، وهو قائد القوات المسلحة الجنرال خوان زونيغا، وأمره بسحب قواته على الفور، لكن الأخير رد عليه بكلمة واحدة قاطعة: "لا"، وذلك وفقًا لمقطع فيديو مصور بثه تلفزيون بوليفيا الرسمي.
ثم انتقلت تغطية القناة التلفزيونية إلى بث كلمة مسجلة لوزيرة خارجية البلاد، تلاها خطاب متلفز للرئيس آرسي، أعلن فيه عن تكليف مسؤولين جدد في المؤسسة العسكرية، ليحلوا محل الوحدة العسكرية المتمردة وبعض الأسماء الأخرى. وعلى إثر ذلك، تم اعتبار "محاولة الانقلاب" فاشلة تمامًا، وهو ما تأكد بتصوير مقطع فيديو يوثق لحظة إلقاء القبض على الجنرال زونيغا، واقتياده إلى سيارة الشرطة أثناء إدلائه بتصريحات مثيرة للجدل لبعض وسائل الإعلام على الهواء مباشرة.
تضمنت هذه التصريحات اتهام الجنرال زونيغا للرئيس الحالي آرسي بالاتفاق معه مسبقًا على الإقدام على تلك الخطوة الاستعراضية، وذلك بهدف رفع مستوى شعبيته المتدهورة، والخروج في صورة البطل الذي تمكن من إفشال الانقلاب، استعدادًا لخوض انتخابات 2025 الرئاسية المقبلة. وعلى الرغم من أن هذا التصريح قد حاز على تصديق واستحسان جزء كبير من الرأي العام البوليفي والإقليمي، إلا أن عدم تمكن الجنرال من إكمال تصريحاته كاملة، جعل البعض الآخر يستخف بذلك المقطع، ويتهمه بالسذاجة والغباء؛ بسبب استجابته لتنفيذ تلك "المسرحية الهزلية"، وتعريض نفسه لأقسى العقوبات، في الوقت الذي حقق فيه الرئيس آرسي هدفه المنشود.
تهديد بالانقلاب
الأمر الغريب والمثير للريبة أيضًا، أن الجنرال زونيغا يعتبر عدوًا لدودًا للرئيس السابق إيفو موراليس، وكان قد أدلى في مناسبات عديدة بتصريحات تحرض على إقصائه وتصفيته من المشهد السياسي برمته، نظرًا لكونه يتمتع بحظوظ وافرة وعالية للفوز بمنصب الرئاسة في حال تمكن من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها السنة القادمة. وقد قرر الرئيس آرسي عزل الجنرال من منصبه أول أمس الثلاثاء، على خلفية تصريحات شديدة اللهجة أدلى بها في اليوم السابق، قال فيها: "لن أسمح له بالترشح مرة أخرى"، وذكّر بأن "القوات المسلحة هي الجناح المسلح للبلاد"، في إشارة واضحة إلى التهديد بالتحرك العسكري.
في هذه العداوة المستحكمة للزعيم إيفو موراليس، يتشارك الجنرال زونيغا مع الرئيس الحالي آرسي، الذي كان يعتبر الذراع اليمنى لموراليس خلال الفترة الثانية من رئاسته، حيث عينه وزيرًا للاقتصاد، ثم رشحه بتزكيته ومباركته لانتخابات 2021، وفاز فيها بفضله. ولكن الخلافات المتراكمة والمتزايدة بينهما منذ ذلك التاريخ، تطورت إلى خصومة وعداوة مستحكمة، عجز جميع قادة اليسار في المنطقة عن حلها وإنهائها، وبلغت ذروتها في انقسام حزبهما "ماس"، وقواعده الانتخابية، مع اصطفاف الأغلبية الساحقة إلى جانب الزعيم موراليس، لكن مسألة الترشح لانتخابات 2025 القادمة باسم الحزب، لا تزال معضلة قائمة وشائكة حتى اليوم، على الرغم من نجاح الرئيس آرسي في استغلال السلطة القضائية لحرمان موراليس من منافسته في الانتخابات.
ولكن على الرغم من وصول العلاقة بين آرسي وموراليس إلى نقطة اللاعودة، وتصاعد احتمالات انهيار الوضع برمته على رؤوس الجميع، تبقى مواقف الرئيس آرسي بشأن أهم القضايا الدولية، غير قابلة للتشكيك أو الطعن فيها. فالقرارات الحاسمة التي اتخذها تجاه إسرائيل في حربها الشرسة على قطاع غزة، كانت متسقة ومنسجمة مع توجهاته السياسية الثابتة منذ شبابه، وامتدادًا لمواقف رفيقه موراليس، وذلك بدءًا من تجريم العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، مرورًا بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، ووصولًا إلى تأييد الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وهي مواقف جريئة جعلت من بوليفيا بلدًا عصيًا على النفوذ الأمريكي منذ عام 2006، مع تولي الزعيم اليساري إيفو موراليس مقاليد الحكم.
بصمة أميركية
ويرجح بعض المحللين والمراقبين أن هذا النهج السياسي الذي تتبناه بوليفيا، سواء مع موراليس أو آرسي من بعده، وبغض النظر عن "حرب الزعامات" المستعرة التي نشبت بينهما، يعتبر سببًا كافيًا للشك في وجود بصمة واضحة للولايات المتحدة وراء أية محاولة انقلاب تحدث فيها. ولعل انقلاب عام 2019 هو خير دليل على ذلك، حيث كانت إسرائيل من أوائل الدول التي باركت تعيين جانين آنييز رئيسة انتقالية لبوليفيا، وقتذاك، وأعلنت هي من جانبها استعادة علاقات بلدها مع إسرائيل، بعد انقطاع دام 10 سنوات، بقرار سيادي من الرئيس السابق إيفو موراليس.
ومما زاد من شكوك هذا الفريق من الرأي العام في وجود دعم أمريكي خفي للجنرال زونيغا، هو أنه طالب الرئيس آرسي في بداية هذا الأسبوع بإجراء تغيير شامل وكامل لأعضاء حكومته، والإفراج الفوري عن الرئيسة الانتقالية جانين آنييز، التي تخضع لعقوبة بالسجن لمدة عشر سنوات.
على صعيد آخر، لم تخفِ واشنطن انشغالها وقلقها البالغين في المدة الأخيرة بالتقارب البوليفي الروسي المتزايد، فيما يتعلق بتقدم المشاورات الثنائية بينهما حول مشاريع استغلال معدن الليثيوم الثمين. فبوليفيا تمتلك 24% من المخزون العالمي من هذا المعدن النفيس الذي يعتبر أساسيًا في صناعة البطاريات المتطورة، ويمثل إحدى الزوايا الهامة لما يعرف بمثلث الثروة الباطنية المستقبلية في أمريكا الجنوبية، والذي يجمعها بالأرجنتين وتشيلي في امتلاك الليثيوم والمياه العذبة بكميات هائلة.
وقد استعادت واشنطن ولاء الأرجنتين من خلال فوز الرئيس خافيير ميلي مؤخرًا، وها هي تتقدم بخطى ثابتة نحو عودة حلفائها إلى حكم تشيلي بعد طي صفحة غابرييل بوريك وحكومته مع نهاية السنة القادمة، لكن استمرار اليسار في بوليفيا سيبقى العائق الأكبر في طريق فوزها بنصيب الأسد في مثلث الثروة الكامن في جنوب القارة.
